سؤال يتردد فى بعض القطاعات فى إسرائيل الآن ويتزايد باستمرار عن شرعية وجود إسرائيل بعد ستين عاما من تأسيسها (1948 ـ 2008). وقد ظهر ذلك فى المبالغة فى هذه الاحتفالات لتغطية أزمة الوجود الشرعى. كما كشفت عنه زلة لسان الرئيس الأمريكى وهو يشارك فى الاحتفالات بثنائه على الستين سنة الماضية وسؤاله عن مستقبل إسرائيل فى الستين سنة المقبلة.
لقد انتهى عصر هرتزل منظّر"الدولة اليهودية" فى مؤتمر بازل 1897. وانتهت أساطير التكوين الأولى، شعب الله المختار، أرض المعاد، الوعد التى دحضها كثير من المؤرخين والساسة والمفكرين والباحثين وعلى رأسهم جارودى وشومسكى. وانقضى القرن التاسع عشر بروحه القومية والعودة إلى الأرحام والرومانسية والدولة الوطنية كحل لمشكلة الإمبراطوريات الأوروبية النمساوية والمجرية وغيرها من القوى الأوروبية التقليدية. وانتهى رد الفعل على النازية والتعاطف العام مع يهود أوروبا وبداية التشكك ببحوث تاريخية رصينة عن "المحرقة" واستعمال الصهيونية نفس الأساليب النازية مع شعب فلسطين.
وفى نفس الوقت انتهى عصر الضعف العربى منذ النكبة فى 1948 والذى بلغ الذروة فى النكسة فى 1967. فقد تم إغراق المدمرة إيلات بعد أشهر من الهزيمة فى أواخر 1967. وصمدت القوات المصرية فى معركة رأس العش فى نفس العام. وسرعان ما نشبت معركة الكرامة فى وادى الأردن بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال فى 1968. واندلعت حرب الاستنزاف على ضفاف القناة عامى 1968 ـ 1969. ثم اندلعت حرب أكتوبر 1973. وتم عبور القناة بإبداع عربى أصيل. وفشل حصار بيروت 1982. وتم تحرير جنوب لبنان فى 2000. واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى فى 1987 والثانية فى 2001، والثالثة على الأبواب. وأخيرا جاء انتصار يوليو/تموز 2006 تتويجا لسنوات طويلة من المقاومة بإبداع عربى أصيل. شعب فى مواجهة جيش. ومقاومة فى مواجهة دولة. ورجل فى مواجهة دبابة. وصاروخ على المدن فى مواجهة طائرة تقذف المدنيين. وانتهى غرور القوة فى إسرائيل، وأسطورة الجيش الذى لا يقهر، وذراع إسرائيل الطويلة.
واستمر الصمود العربى وعدم التنازل عن الحقوق. بل إن الدول العربية الثلاث التى اعترفت بإسرائيل، مصر والأردن وموريتانيا، ظهرت فيها أكبر حركة لمقاومة التطبيع. وتحولت القضية الفلسطينية إلى قضية شعبية بعد أن كانت حكرا على الأنظمة العربية. قويت الحركة الشعبية الرافضة للتطبيع فى الأردن ومصر. وأصبح الاعتراف الموريتانى أحد العوامل المشكلة فى السياسة المويتانية، ومطلبا رئيسيا لكل الأحزاب السياسية. والغالبية من النظم العربية مازالت رافضة للصلح والاعتراف قبل نيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى. وقدم العرب مبادرة السلام العربية ليبينوا للعالم أن السلام خيار استراتيجى، وأنهم دعاة سلام لا حرب، وأنه فرق بين المقاومة والإرهاب. المقاومة مشروعة ضد الاحتلال. والإرهاب بمعنى ترويع الآمنين غير مشروع. ومازال التعبير"إسرائيل المزعومة" الذى أصبح مناط التهكم والإحساس بالهزيمة يسرى فى اللاوعى العربى. فلا أحد من العرب يعتقد أن وجود إسرائيل وجود شرعى.
وقد بدأ نفس الإحساس يتزايد فى الوعى الإسرائيلى. بدأ لدى اليسار التقليدى خاصة الماركسى ثم الليبرالى ثم المتدين متمسكا بمبادئ اليهودية وشريعة موسى وليس بالعقيدة الصهيونية وشرائع جابونتسكى وهرتزل وبيجين وشارون. وبدأت حركة اليسار الجديد تعتمد على حقوق الإنسان. يشارك فيها عديد من المثقفين والفنانين وأساتذة الجامعات فى إسرائيل مطالبين برفع الظلم عن الشعب الفلسطينى، وأنه يمكن إقامة دولة إسرائيل دون الصهيونية مع الاعتراف بحقوق شعب فلسطين فى دولة علمانية متعددة الجنسيات والطوائف. وهو ما نص عليه الميثاق الوطنى الفلسطينى الأول قبل الاعتراف بمشروع الدولتين، وإعلان قيام دولة فلسطين من جانب واحد والتى تمثلها الآن السلطة الوطنية الفلسطينية. وأكبر مُعبّر عن هذا التيار الجديد إيلان بابيه الذى يطالب بالاعتذار التاريخى من دولة إسرائيل على ما حل بالفلسطينيين من تشريد وطرد واضطهاد وقتل منذ 1948. ثم يطالب بالمصالحة التاريخية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والعيش فى دولة ديموقراطية واحدة يتساوى فيها الجميع فى الحقوق والواجبات.
لم يعد الوعى الإسرائيلى، فى قطاعات متزايدة منه، يتحمل الفظائع التى يرتكبها الجيش الإسرائيلى فى الأراضى المحتلة ولا الإرهاب الذى يمارسه المستوطنون ضد الشعب الفلسطينى. لم يعد يتحمل ما تتناقله وسائل الإعلام من تجريف للأراضى وهدم للمنازل وقتل للنساء والأطفال والشيوخ وتصفيات جسدية لنشطاء المقاومة. القوة وحدها لا تقيم شرعية، بل العدل. ومهما بلغت القوة من مدى فإنها ليست بديلا عن الحق. فالحق فوق القوة. القوة أمدها قصير. وتخضع لتبدل موازينها. فى حين أن الحق أمده طويل. ولا يتغير طالما تمسك به أصحابه. على الحق قامت السماوات والأرض (ولئن اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض(. وعلى العدل قامت الشرائع السماوية والأرضية.
وبعد الانتفاضتين الأولى والثانية، وبعدما شاهد العالم كله من تضحيات لشعب فلسطين بدأ العالم يعترف تدريجيا بحقوق شعب فلسطين فى أوساط المثقفين وفى أروقة الجامعات. ثم تحول إلى الساسة، أوروبا وأمريكا بالإضافة إلى شعوب العالم الثالث. بدأ الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وفلسطين. وصيغت ورقة كلينتون لإقامة دولتين. وأعادت صياغتها خارطة الطريق. واعترف العديد من المنظمات الدولية بحقوق شعب فلسطين. وظهر فلسطينيون يمثلون الضمير العالمى مثل إدوارد سعيد ومحمود درويش وناجى العلى مع غيرهم من المثقفين والأساتذة الإسرائيليين مثل إسرائيل شاهاق. وتمت صياغة وثائق مشتركة من الفلسطينيين والإسرائيليين تعترف بحقوق شعب فلسطين مثل وثيقة جنيف. وعقدت مؤتمرات لتحقيق هذه الغاية مثل مؤتمر مدريد القائم على الأرض فى مقابل السلام، بل اتفاقيات أوسلو التى شرعت لوجود السلطة الوطنية الفلسطينية وعودة ياسر عرفات من المنفى إلى فلسطين.
وازداد الرأى العام العالمى وعيا بالقضية. وبدأت منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان تكشف عن الممارسات القمعية التى تقوم بها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى. وقامت المظاهرات من داخل إسرائيل ضد جدار الفصل العنصرى. وأصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا ببطلان هذا الجدار العازل وعدم شرعيته. وأصبحت مئات القرارات الدولية لصالح القضية الفلسطينية تمثل ثقلا على الضمير العالمى.
المعركة طويلة بين الشعب الفلسطينى والكيان الصهيونى ليس فقط عن طريق الجيوش العربية كما حدث فى الحروب العربية الإسرائيلية الخمس السابقة، ولا عن طريق المقاومة الشعبية كما يحدث فى فلسطين ولبنان بل عن طريق التمسك بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى وعدم المساومة على أى منها. وبقدر ما يقوى هذا التمسك تضعف شرعية الوجود الإسرائيلى ويزداد الوعى بأن غطرسة القوة لها حدود، وبأن القوة لا تصنع حقا وليست بديلا عنه.
لقد نشأت إسرائيل وموازين القوى ليست فى صالح العرب. فقد احتلت معظم الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى وخسارة تركيا الحرب وتوزيع إمبراطوريتها الواسعة على القوى الغربية الصاعدة، فرنسا وبريطانيا. واعتمدت إسرائيل فى نشأتها على بريطانيا ابتداء من وعد بلفور فى 1917. ولما تحولت الموازين الدولية من بريطانيا إلى أمريكا اعتمدت إسرائيل على الولايات المتحدة الأمريكية بالسلاح والتأييد الدولى. والآن تتغير موازين القوى مرة ثالثة. فالإمبراطورية الأمريكية ليست دائمة. وبعد الغزو الأمريكى لأفغانستان والعراق والتأييد المطلق للعدوان الإسرائيلى بدأ ينقشع أيضا غرور القوة. ولن تبقى أمريكا إلى الأبد القوة العسكرية والاقتصادية الأولى فى العالم. الآن تتبدل موازين القوى من الغرب إلى الشرق، ومن أوروبا إلى آسيا، ومن أمريكا إلى الصين. والآن تسترد روسيا عافيتها ودورها الدولى. وبدأت دول عربية وإسلامية تلعب دورها على الساحة الدولية مثل سوريا ولبنان وإيران وتركيا وماليزيا وإندونيسيا وباكستان والهند وبعض دول أواسط آسيا. قد يتغير محور القوة من الغرب إلى الشرق. هنا يحدث تحول فى القضية الفلسطينية. وكما انحاز الغرب إلى إسرائيل فى نشأتها ينحاز الشرق إلى فلسطين لاستعادة حقوقها. الوجود بلا شرعية سرعان ما يتلاشى. والشرعية بلا وجود سرعان ما توجد. فالقوة وجود بلا شرعية، والحق شرعية ووجود
المصدر :
جريده العربى