ساعة لقلبك.. صانع النجوم والأجيال
لأننى من الجيل القديم بالنسبة لما يحدث اليوم فى شتى المجالات، فقد تربيت على نوع من التقشف الذى لم يفارقنى حتى الآن، وتعلمت أن من الممكن تحقيق الحاجات الأساسية من خلال إمكانات محدودة ومتواضعة، وبالطبع لم أكن استثناء فى هذا المجال، فأنا ابن مرحلة كانت تفعل ذلك وبدون ادعاء، وهأنذا الآن أصبحت من جدود مرحلة تزعم تحقيق الرفاهية وأزهى صور الملوخية (على رأى الصديق جمال فهمي)، ومع ذلك فإن المرحلة الراهنة لا تحقق لأبنائها الحد الأدنى من الرضا والإشباع والشعور بأنهم "بشر" يستحقون الحياة ويستمتعون بها.
أسمعك ياقارئى العزيز تهمس: "رجعنا تانى لحكاية أيام زمان والبيضة كانت بمليم!"، لكننى أؤكد لك أن ذلك ليس هدفى، وإنما المسألة كلها تداعيات ذكريات رجل عجوز عن طفولته التى تشكلت مع جهاز "الراديو"، الذى كانت واجهته تضئ بلمبة خضراء جميلة تشير إلى أن المحطة مضبوطة تماما على ترددها، بينما فى الخلفية غطاء ملئ بالثقوب (للتهوية)، كنا ننظر من خلاله بحثا وسط الصمامات الكبيرة المضيئة عن الناس الصغار الذى يعيشون بداخله، ويقدمون لنا تلك الوجبات الإذاعية التى لا تتوقف، وأعتقد أننى مازلت أبحث عنهم وأحلم أن أراهم كلما صادفت مذياعا من الطراز القديم.
من هؤلاء الناس الصغار جدا فى خيالى كان هناك رجال كبار جدا فى قاماتهم الفنية، صنعوا لنا البهجة عبر عقد الخمسينيات تحت اسم "ساعة لقلبك"، وكان هذا البرنامج يشكل كغيره من البرامج خريطة حياتى، خاصة فى يوم الجمعة، فبعد الصلاة كنا نعود إلى المنزل جريا لنلحق فى الثانية عشرة والنصف ببرنامج المسابقات البوليسى "46120 إذاعة"، وهو أول برنامج "تفاعلي" فى مصر منذ أكثر من نصف قرن من إعادة اكتشاف هذه الميزة مرة أخرى فى إذاعاتنا، إذ كان يسمح للمستمع بالاتصال ليقول "من الجاني؟"، وكانت الجائزة جنيهين كان يمكن بهما آنذاك أن تشترى بدلة أنيقة! وبعدها يأتى فاصل من "الأغنيات البلدية والقروية" فى ربع ساعة، أما برنامج "على الناصية" فكان فى الواحدة والنصف، وكنا جميعا نحلم بأن نقابل آمال فهمى لعلنا نصادف حظ عبد الحليم حافظ عندما قابلها فى فيلم "حكاية حب"، وفى الثالثة تماما يأتى موعد تمثيلية تمتد ساعتين إلا الربع كانت فى الأصل مسلسلا يوميا فى ثلاثين حلقة، وأعيد "مونتاجها" لكى تقدم فى وجبة إذاعية واحدة.
لعلك قد لاحظت أننى قد قفزت على ما كنا نسمعه فى الواحدة ظهرا، وكان ذلك هو "ساعة لقلبك" التى هى فى الحقيقة "نصف ساعة لقلبك"، والسبب فى التسمية هو المثل المصرى الشائع "ساعة لربك وساعة لقلبك" (مرة أخرى الدين والدنيا معا فى وجدان الشعب المصري)، فها نحن فى صلاة الجمعة ندير ظهورنا للدنيا ونخشع لله، وبعدها نعود لاحتضان الحياة، وكانت أغنية تيترات البرنامج تقول: "ساعة لقلبك إضحك فيها، خللى الدنيا كمان تضحك لك، إوعى تكشر أبدا فيها، مين تضحك له ويكشر لك؟"، وأرجو أن تصدقنى أن كورس النساء كان يؤدى السطر الثالث فى "بوليفونية" مع كورس الرجال كانت أذننا تتقبلها دون أن نعرف ماهى، ولعلى بعد مقالين أو ثلاثة أحدثك عن البوليفونية التى تحولت إلى نقطة تحول حقيقية فى حياتي!
بدأ برنامج "ساعة لقلبك" فى عام 1952 ليخرجه أحمد طاهر ثم يوسف الحطاب ثم فهمى عمر، الذى كان مذيعا ومخرجا لامعا للعديد من البرامج (مثل "مجلة الهواء" فيما بعد)، وترقى إلى أرفع المناصب فى الإذاعة والتليفزيون، ومع ذلك فقد اشترك مع فريق "ساعة لقلبك" فى بداياته كممثل أيضا لدور الصعيدى، قبل أن ينتقل هذا الدور لممثلين آخرين. وكانت الإذاعة المصرية آنذاك، وبإمكانات متواضعة ولكن بمواهب حقيقية تعرف الجهد ولا مكان فيها للواسطة أو الوراثة، كانت تقف على قدم المساواة مع الإذاعات العالمية فى أفكارها وبرامجها (لمن يتشكك فليقرأ الفصل السادس الخاص بوسائط الإعلام فى كتاب جيمس موناكو "كيف تقرأ فيلما")، ولك أن تتخيل أن هذا الفريق كان يقدم فقراته الكوميدية أمام الجمهور، لكن دون أى ديكورات، وإنما ميكروفون يتجمع حوله الممثلون ويقرأون أدوارهم من الورق، ومع ذلك فإنه كانت هناك (برغم هذا التغريب أو بالأحرى بسببه) حالة من التفاعل الحميم بين الممثلين والجمهور، ربما يحسدهم عليها بريخت أو يسرى نصرالله (هل تذكر "جنينة الأسماك" وانبهار النقاد بما كان اسماعيل ياسين يفعله منذ ستين عاما؟)، فكثيرا ماكان الممثل يخاطب الجمهور، مثل شخصية محمود (فؤاد المهندس) وهو يدعو على زوجته الزنانة (خيرية أحمد) فيقول للمتفرجين: "قولوا إن شاالله" فيرددونها فى مرح صاخب، أو عندما يقف الفتوة المعلم شَكَل (محمد يوسف) لكى يشحذ بالقوة مناديا بصوته الجهوري: "لله ياأسيادي" فيرد عليه متفرج خفيف الظل: "على الله"!
إننى أرى دائما أن هذه الحالة من التفاعل الحى بين الفنان والمتلقى هى حالة اجتماعية وسياسية أكثر منها فنية (كان الفنان العظيم يوسف إدريس يطلق عليها حالة "التمسرح")، والحقيقة أن المسرح هو أكثر الفنون تعبيرا عن هذا التفاعل، وأرجو أن تقارن بين نهضتنا المسرحية فى الستينيات وتراجعنا الآن، لتدرك أن الحالة الاجتماعية الراهنة، داخل المسرح وخارجه، قد حولتنا إلى جزر معزولة، لا نتواصل فى سياق حى، وهذا السياق هو الذى يصنع "الوطن"، لكن أتراهم يريدون حقا أن يكون لدينا شعور بأننا نعيش فى وطن؟ لقد صنعوا لنا "سوقا" نجتمع فيه لكى نَستهلِك ونُستهلَك، ثم يذهب الواحد منا إلى حال سبيله ليحبس نفسه فى ذاته الضيقة. لم نعد نضحك لأن الدنيا لم تعد تضحك لنا كما كانت أغنية "ساعة لقلبك" تؤكد لنا.
لقد كانت تلك الحالة الاجتماعية متجسدة فى فريق العمل الذى يعيش طوال أسبوع كامل فى حالة إعداد لهذه النصف ساعة، سبعة أيام كاملة يعجنون ويخبزون فيها مادتهم الفكاهية، وكان من أشهر مؤلفى هذه النمر عبدالمنعم مدبولى وأنور عبدالله ويوسف عوف، لكن بعض الممثلين كانوا يقومون بتأليف نمرهم بأنفسهم، مثل أبولمعة (محمد أحمد المصري)، لكن ربما كان من أهمهم فى التأليف والإخراج مدبولى الذى تخرج من معهد التمثيل، وكان عضوا فى فرقة "المسرح الحر"، واشترك فى مسرحية نعمان عاشور "الناس اللى تحت" فى دور البواب خفيف الظل. وهكذا كانت خلفياتهم مزيجا من الدراسة الأكاديمية والحس الشعبى فى آن واحد، خاصة فى علاقتهم بفنون الفودفيل والموالد (من أمتع الدراسات فى هذا السياق ماكتبه الدكتور على الراعى فى تحليل مسرحية "هاللو شلبي" التى قد يستخف بها "المثقفون")، ومن هنا جاءت قدرتهم على خلق كوميديا الموقف ببساطة حقيقية وإن كانت تتفجر بالضحك، تحدث فى أماكن مألوفة فى الحياة، مثل المدرسة أو الأوتوبيس أو عيادة الطبيب أو شباك تذاكر السينما أو محطة القطار، ناهيك عن قدرتهم الفائقة على صياغة شخصيات نمطية شديدة التنوع، بما يذكرك بالقحط الإبداعى الذى نعيش فيه، والذى تؤكد عليه شخصية "لمبي" التى كان السبب الوحيد للانبهار بها هو أننا توقفنا منذ عقود طويلة عن خلق مثل هذه الشخصيات الكاريكاتورية، فجاء "لمبي" كأنه ليمونة فى بلد قرفانة، وهاهى الليمونة قد تم عصرها إلى آخر نقطة بينما ازداد البلد قرفا!
إليك نماذج من بعض الشخصيات الكاريكاتورية فى "ساعة لقلبك": الأليط (محمد عوض) شديد الغرور لكنه لا يملك ثمن عشائه، وفصيح (ممدوح فتح الله) الذى يتهته بالكلام لكنه يصر أحيانا أن يكون مطربا، والشخص "الرغاي" الذى تنقل بين عبد المنعم ابراهيم وجمالات زايد وأحمد الحداد، والفتوة شَكَل (محمد يوسف) القاهرى النصاب الذى يستخدم "رمى جتته" على الناس لتحقيق أغراضه، وأبولمعة الفشار الذى كان ينتقم لنا بطريقته من الخواجة بيجو (فؤاد راتب) الذى مص دماءنا فى فترة الاستعمار ونشعر بالدونية تجاهه أحيانا، وبنت الذوات (سناء جميل ثم خيرية أحمد) التى تدعى انحدارها من أسرة ارستقراطية لنكتشف فى النهاية أصولها الشعبية، والصعيدى الذى كان أحيانا سليط اللسان على طريقة أحمد الحداد، وأحيانا أخرى ساذجا مثل فهلاو (أمين الهنيدي). أما فؤاد المهندس فكان "الجوكر" الذى يستطيع أن يلعب كل الأدوار، وإن كان أحيانا يؤدى شخصيات كاريكاتورية مثل الكاتب الكبير الذى هو فى الحقيقة مدعٍ يسرق ماكتبه الآخرون وينسبه لنفسه، ومن المفارقات الطريفة أن يكون والد فؤاد المهندس هو زكى المهندس، اللغوى صاحب الدراسات الجادة والعميقة، لكن الابن كان يقوم أحيانا بدور المتحذلق فى اللغة الذى يستخدم مهجور الكلمات أو ينحت كلمات جديدة لتأففه من اللغة العامية، مثل قوله: "أى هذا البطاقى، هل من رحالة لثغر منبعج؟"، وسوف أترك القارئ يخمن ماكان يقصد إليه.
هناك عشرات الأسماء الأقل شهرة وإن لم تقل موهبة أو جهدا اشتركت مع هذا الفريق كأسرة واحدة، مثل رفيعة الشال وأنور محمد وعمر عفيفى وليلى فهمى ومنير الفنجرى وحسين رياض وكامل أنور، لكن لابد أن القارئ يعرف جيدا الأسماء التى تحولت فيما بعد إلى السينما والمسرح لتصبح أكثر جماهيرية، وعلى رأسهم مدبولى والمهندس والهنيدى وعبد المنعم ابراهيم وسناء جميل ومحمد يوسف ونبيلة السيد، وأسماء أخرى تعجز الذاكرة عن حصرها.
لكننى لا أنسى أبدا تلك المأساة التى نعيشها فى "سينما الإفيه"، التى تتولد فيها الإفيهات شديدة السماجة بقدر كبير من الغلظة، مع إن أحد الفنون الكوميدية الشعبية الراسخة فى وجدان الشعب المصرى هى "القافية" التى برع فيها على نحو خاص سلطان الجزار وشريف الفار (كان سلطان جزارا حقيقيا، أما الفار فكان لاعب كرة قدم فى نادى الزمالك). وفى الحقيقة أن القافية تعود بجذورها عند الشعب المصرى إلى ماهو أبعد من الفكاهة بكثير، فمنذ عرف الشعب المصرى اللغة العربية وهو يملك القدرة على التلاعب بالألفاظ فيجعل الكلمة الواحدة تلد عشرات الكلمات، ترى ذلك فى الصوفية عند ابن الفارض والبوصيرى (وكلاهما مصري)، كما تراه فى الموال الشعبى مثل: "إخص عليك يازمن بتخلى الأصيل ماهوش منصوف، من بعد ماكانت تيابى من حرير من صوف"، أو مثلما أراد الشاعر اسماعيل صبرى (فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر) أن يقول لحبيبته التى تدعى "أسما" أنه "قعد يخبط على بابها ويترجاها لحد ما تعب، ولما تعب ردت عليه قالت له يااسماعيل اصبر شوية، قال لها ماعدش عندى صبر خلاص"، فانظر كيف عبر عن ذلك: "طرقت الباب حتى كل متنى، فلما كل متنى كلمتنى، فقالت لى يااسماعيل صبرا، فقلت لها ياأسما، عيل صبري"! إنه عشق خاص للغة العربية يتميز به الشعب المصرى فى الدنيا والدين معا، وهكذا يدخل مثلا سلطان الجزار فى قافية "الشقق"، فينعى على صاحب البيت هشاشة الشقة التى يؤجرها وتداعى جدرانها: "بقى دى شقة؟ أبوك الشقا مات، عشَّة وشفنا، دى من قلة حيطانها باأعلق الصور على الأرض"!
هل نضحك أم نبكى ياعزيزى القارئ؟ مهما ضحكنا فلن تضحك لنا الدنيا لأن من يصنعونها لنا "وشهم يقطع الخميرة من البيت" (هل ذلك هو سبب أزمة الخبز؟)، كما ضاعت روح الفريق التى صنعت برنامجا مثل "ساعة لقلبك"، وانقطع التواصل بين الفنان والمتلقى الذى يبلع كل مايلقون إليه به لأنه لا يملك بديلا وهو يجلس فى قاعة العرض أو أمام التليفزيون كأنه "نازل عليه سهم الله". وأخيرا فإننا نقول لصناع السينما شبه الكوميدية التى ابتلانا الله بها: إنكم موجودون فقط لأنه لم يعد هناك برنامج مثل "ساعة لقلبك"، وأؤكد أنه لو كان موجودا لاستطعنا عندئذ أن نتفرغ لصنع السينما الحقيقية.
لأننى من الجيل القديم بالنسبة لما يحدث اليوم فى شتى المجالات، فقد تربيت على نوع من التقشف الذى لم يفارقنى حتى الآن، وتعلمت أن من الممكن تحقيق الحاجات الأساسية من خلال إمكانات محدودة ومتواضعة، وبالطبع لم أكن استثناء فى هذا المجال، فأنا ابن مرحلة كانت تفعل ذلك وبدون ادعاء، وهأنذا الآن أصبحت من جدود مرحلة تزعم تحقيق الرفاهية وأزهى صور الملوخية (على رأى الصديق جمال فهمي)، ومع ذلك فإن المرحلة الراهنة لا تحقق لأبنائها الحد الأدنى من الرضا والإشباع والشعور بأنهم "بشر" يستحقون الحياة ويستمتعون بها.
أسمعك ياقارئى العزيز تهمس: "رجعنا تانى لحكاية أيام زمان والبيضة كانت بمليم!"، لكننى أؤكد لك أن ذلك ليس هدفى، وإنما المسألة كلها تداعيات ذكريات رجل عجوز عن طفولته التى تشكلت مع جهاز "الراديو"، الذى كانت واجهته تضئ بلمبة خضراء جميلة تشير إلى أن المحطة مضبوطة تماما على ترددها، بينما فى الخلفية غطاء ملئ بالثقوب (للتهوية)، كنا ننظر من خلاله بحثا وسط الصمامات الكبيرة المضيئة عن الناس الصغار الذى يعيشون بداخله، ويقدمون لنا تلك الوجبات الإذاعية التى لا تتوقف، وأعتقد أننى مازلت أبحث عنهم وأحلم أن أراهم كلما صادفت مذياعا من الطراز القديم.
من هؤلاء الناس الصغار جدا فى خيالى كان هناك رجال كبار جدا فى قاماتهم الفنية، صنعوا لنا البهجة عبر عقد الخمسينيات تحت اسم "ساعة لقلبك"، وكان هذا البرنامج يشكل كغيره من البرامج خريطة حياتى، خاصة فى يوم الجمعة، فبعد الصلاة كنا نعود إلى المنزل جريا لنلحق فى الثانية عشرة والنصف ببرنامج المسابقات البوليسى "46120 إذاعة"، وهو أول برنامج "تفاعلي" فى مصر منذ أكثر من نصف قرن من إعادة اكتشاف هذه الميزة مرة أخرى فى إذاعاتنا، إذ كان يسمح للمستمع بالاتصال ليقول "من الجاني؟"، وكانت الجائزة جنيهين كان يمكن بهما آنذاك أن تشترى بدلة أنيقة! وبعدها يأتى فاصل من "الأغنيات البلدية والقروية" فى ربع ساعة، أما برنامج "على الناصية" فكان فى الواحدة والنصف، وكنا جميعا نحلم بأن نقابل آمال فهمى لعلنا نصادف حظ عبد الحليم حافظ عندما قابلها فى فيلم "حكاية حب"، وفى الثالثة تماما يأتى موعد تمثيلية تمتد ساعتين إلا الربع كانت فى الأصل مسلسلا يوميا فى ثلاثين حلقة، وأعيد "مونتاجها" لكى تقدم فى وجبة إذاعية واحدة.
لعلك قد لاحظت أننى قد قفزت على ما كنا نسمعه فى الواحدة ظهرا، وكان ذلك هو "ساعة لقلبك" التى هى فى الحقيقة "نصف ساعة لقلبك"، والسبب فى التسمية هو المثل المصرى الشائع "ساعة لربك وساعة لقلبك" (مرة أخرى الدين والدنيا معا فى وجدان الشعب المصري)، فها نحن فى صلاة الجمعة ندير ظهورنا للدنيا ونخشع لله، وبعدها نعود لاحتضان الحياة، وكانت أغنية تيترات البرنامج تقول: "ساعة لقلبك إضحك فيها، خللى الدنيا كمان تضحك لك، إوعى تكشر أبدا فيها، مين تضحك له ويكشر لك؟"، وأرجو أن تصدقنى أن كورس النساء كان يؤدى السطر الثالث فى "بوليفونية" مع كورس الرجال كانت أذننا تتقبلها دون أن نعرف ماهى، ولعلى بعد مقالين أو ثلاثة أحدثك عن البوليفونية التى تحولت إلى نقطة تحول حقيقية فى حياتي!
بدأ برنامج "ساعة لقلبك" فى عام 1952 ليخرجه أحمد طاهر ثم يوسف الحطاب ثم فهمى عمر، الذى كان مذيعا ومخرجا لامعا للعديد من البرامج (مثل "مجلة الهواء" فيما بعد)، وترقى إلى أرفع المناصب فى الإذاعة والتليفزيون، ومع ذلك فقد اشترك مع فريق "ساعة لقلبك" فى بداياته كممثل أيضا لدور الصعيدى، قبل أن ينتقل هذا الدور لممثلين آخرين. وكانت الإذاعة المصرية آنذاك، وبإمكانات متواضعة ولكن بمواهب حقيقية تعرف الجهد ولا مكان فيها للواسطة أو الوراثة، كانت تقف على قدم المساواة مع الإذاعات العالمية فى أفكارها وبرامجها (لمن يتشكك فليقرأ الفصل السادس الخاص بوسائط الإعلام فى كتاب جيمس موناكو "كيف تقرأ فيلما")، ولك أن تتخيل أن هذا الفريق كان يقدم فقراته الكوميدية أمام الجمهور، لكن دون أى ديكورات، وإنما ميكروفون يتجمع حوله الممثلون ويقرأون أدوارهم من الورق، ومع ذلك فإنه كانت هناك (برغم هذا التغريب أو بالأحرى بسببه) حالة من التفاعل الحميم بين الممثلين والجمهور، ربما يحسدهم عليها بريخت أو يسرى نصرالله (هل تذكر "جنينة الأسماك" وانبهار النقاد بما كان اسماعيل ياسين يفعله منذ ستين عاما؟)، فكثيرا ماكان الممثل يخاطب الجمهور، مثل شخصية محمود (فؤاد المهندس) وهو يدعو على زوجته الزنانة (خيرية أحمد) فيقول للمتفرجين: "قولوا إن شاالله" فيرددونها فى مرح صاخب، أو عندما يقف الفتوة المعلم شَكَل (محمد يوسف) لكى يشحذ بالقوة مناديا بصوته الجهوري: "لله ياأسيادي" فيرد عليه متفرج خفيف الظل: "على الله"!
إننى أرى دائما أن هذه الحالة من التفاعل الحى بين الفنان والمتلقى هى حالة اجتماعية وسياسية أكثر منها فنية (كان الفنان العظيم يوسف إدريس يطلق عليها حالة "التمسرح")، والحقيقة أن المسرح هو أكثر الفنون تعبيرا عن هذا التفاعل، وأرجو أن تقارن بين نهضتنا المسرحية فى الستينيات وتراجعنا الآن، لتدرك أن الحالة الاجتماعية الراهنة، داخل المسرح وخارجه، قد حولتنا إلى جزر معزولة، لا نتواصل فى سياق حى، وهذا السياق هو الذى يصنع "الوطن"، لكن أتراهم يريدون حقا أن يكون لدينا شعور بأننا نعيش فى وطن؟ لقد صنعوا لنا "سوقا" نجتمع فيه لكى نَستهلِك ونُستهلَك، ثم يذهب الواحد منا إلى حال سبيله ليحبس نفسه فى ذاته الضيقة. لم نعد نضحك لأن الدنيا لم تعد تضحك لنا كما كانت أغنية "ساعة لقلبك" تؤكد لنا.
لقد كانت تلك الحالة الاجتماعية متجسدة فى فريق العمل الذى يعيش طوال أسبوع كامل فى حالة إعداد لهذه النصف ساعة، سبعة أيام كاملة يعجنون ويخبزون فيها مادتهم الفكاهية، وكان من أشهر مؤلفى هذه النمر عبدالمنعم مدبولى وأنور عبدالله ويوسف عوف، لكن بعض الممثلين كانوا يقومون بتأليف نمرهم بأنفسهم، مثل أبولمعة (محمد أحمد المصري)، لكن ربما كان من أهمهم فى التأليف والإخراج مدبولى الذى تخرج من معهد التمثيل، وكان عضوا فى فرقة "المسرح الحر"، واشترك فى مسرحية نعمان عاشور "الناس اللى تحت" فى دور البواب خفيف الظل. وهكذا كانت خلفياتهم مزيجا من الدراسة الأكاديمية والحس الشعبى فى آن واحد، خاصة فى علاقتهم بفنون الفودفيل والموالد (من أمتع الدراسات فى هذا السياق ماكتبه الدكتور على الراعى فى تحليل مسرحية "هاللو شلبي" التى قد يستخف بها "المثقفون")، ومن هنا جاءت قدرتهم على خلق كوميديا الموقف ببساطة حقيقية وإن كانت تتفجر بالضحك، تحدث فى أماكن مألوفة فى الحياة، مثل المدرسة أو الأوتوبيس أو عيادة الطبيب أو شباك تذاكر السينما أو محطة القطار، ناهيك عن قدرتهم الفائقة على صياغة شخصيات نمطية شديدة التنوع، بما يذكرك بالقحط الإبداعى الذى نعيش فيه، والذى تؤكد عليه شخصية "لمبي" التى كان السبب الوحيد للانبهار بها هو أننا توقفنا منذ عقود طويلة عن خلق مثل هذه الشخصيات الكاريكاتورية، فجاء "لمبي" كأنه ليمونة فى بلد قرفانة، وهاهى الليمونة قد تم عصرها إلى آخر نقطة بينما ازداد البلد قرفا!
إليك نماذج من بعض الشخصيات الكاريكاتورية فى "ساعة لقلبك": الأليط (محمد عوض) شديد الغرور لكنه لا يملك ثمن عشائه، وفصيح (ممدوح فتح الله) الذى يتهته بالكلام لكنه يصر أحيانا أن يكون مطربا، والشخص "الرغاي" الذى تنقل بين عبد المنعم ابراهيم وجمالات زايد وأحمد الحداد، والفتوة شَكَل (محمد يوسف) القاهرى النصاب الذى يستخدم "رمى جتته" على الناس لتحقيق أغراضه، وأبولمعة الفشار الذى كان ينتقم لنا بطريقته من الخواجة بيجو (فؤاد راتب) الذى مص دماءنا فى فترة الاستعمار ونشعر بالدونية تجاهه أحيانا، وبنت الذوات (سناء جميل ثم خيرية أحمد) التى تدعى انحدارها من أسرة ارستقراطية لنكتشف فى النهاية أصولها الشعبية، والصعيدى الذى كان أحيانا سليط اللسان على طريقة أحمد الحداد، وأحيانا أخرى ساذجا مثل فهلاو (أمين الهنيدي). أما فؤاد المهندس فكان "الجوكر" الذى يستطيع أن يلعب كل الأدوار، وإن كان أحيانا يؤدى شخصيات كاريكاتورية مثل الكاتب الكبير الذى هو فى الحقيقة مدعٍ يسرق ماكتبه الآخرون وينسبه لنفسه، ومن المفارقات الطريفة أن يكون والد فؤاد المهندس هو زكى المهندس، اللغوى صاحب الدراسات الجادة والعميقة، لكن الابن كان يقوم أحيانا بدور المتحذلق فى اللغة الذى يستخدم مهجور الكلمات أو ينحت كلمات جديدة لتأففه من اللغة العامية، مثل قوله: "أى هذا البطاقى، هل من رحالة لثغر منبعج؟"، وسوف أترك القارئ يخمن ماكان يقصد إليه.
هناك عشرات الأسماء الأقل شهرة وإن لم تقل موهبة أو جهدا اشتركت مع هذا الفريق كأسرة واحدة، مثل رفيعة الشال وأنور محمد وعمر عفيفى وليلى فهمى ومنير الفنجرى وحسين رياض وكامل أنور، لكن لابد أن القارئ يعرف جيدا الأسماء التى تحولت فيما بعد إلى السينما والمسرح لتصبح أكثر جماهيرية، وعلى رأسهم مدبولى والمهندس والهنيدى وعبد المنعم ابراهيم وسناء جميل ومحمد يوسف ونبيلة السيد، وأسماء أخرى تعجز الذاكرة عن حصرها.
لكننى لا أنسى أبدا تلك المأساة التى نعيشها فى "سينما الإفيه"، التى تتولد فيها الإفيهات شديدة السماجة بقدر كبير من الغلظة، مع إن أحد الفنون الكوميدية الشعبية الراسخة فى وجدان الشعب المصرى هى "القافية" التى برع فيها على نحو خاص سلطان الجزار وشريف الفار (كان سلطان جزارا حقيقيا، أما الفار فكان لاعب كرة قدم فى نادى الزمالك). وفى الحقيقة أن القافية تعود بجذورها عند الشعب المصرى إلى ماهو أبعد من الفكاهة بكثير، فمنذ عرف الشعب المصرى اللغة العربية وهو يملك القدرة على التلاعب بالألفاظ فيجعل الكلمة الواحدة تلد عشرات الكلمات، ترى ذلك فى الصوفية عند ابن الفارض والبوصيرى (وكلاهما مصري)، كما تراه فى الموال الشعبى مثل: "إخص عليك يازمن بتخلى الأصيل ماهوش منصوف، من بعد ماكانت تيابى من حرير من صوف"، أو مثلما أراد الشاعر اسماعيل صبرى (فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر) أن يقول لحبيبته التى تدعى "أسما" أنه "قعد يخبط على بابها ويترجاها لحد ما تعب، ولما تعب ردت عليه قالت له يااسماعيل اصبر شوية، قال لها ماعدش عندى صبر خلاص"، فانظر كيف عبر عن ذلك: "طرقت الباب حتى كل متنى، فلما كل متنى كلمتنى، فقالت لى يااسماعيل صبرا، فقلت لها ياأسما، عيل صبري"! إنه عشق خاص للغة العربية يتميز به الشعب المصرى فى الدنيا والدين معا، وهكذا يدخل مثلا سلطان الجزار فى قافية "الشقق"، فينعى على صاحب البيت هشاشة الشقة التى يؤجرها وتداعى جدرانها: "بقى دى شقة؟ أبوك الشقا مات، عشَّة وشفنا، دى من قلة حيطانها باأعلق الصور على الأرض"!
هل نضحك أم نبكى ياعزيزى القارئ؟ مهما ضحكنا فلن تضحك لنا الدنيا لأن من يصنعونها لنا "وشهم يقطع الخميرة من البيت" (هل ذلك هو سبب أزمة الخبز؟)، كما ضاعت روح الفريق التى صنعت برنامجا مثل "ساعة لقلبك"، وانقطع التواصل بين الفنان والمتلقى الذى يبلع كل مايلقون إليه به لأنه لا يملك بديلا وهو يجلس فى قاعة العرض أو أمام التليفزيون كأنه "نازل عليه سهم الله". وأخيرا فإننا نقول لصناع السينما شبه الكوميدية التى ابتلانا الله بها: إنكم موجودون فقط لأنه لم يعد هناك برنامج مثل "ساعة لقلبك"، وأؤكد أنه لو كان موجودا لاستطعنا عندئذ أن نتفرغ لصنع السينما الحقيقية.