ألغاز قضية هشام طلعت مصطفي!
الصدمة شلت تفكيره، فما يحدث لم يكن يخطر له على بال، انقلبت الحسابات والتصورات بصورة مباغتة، رفعت الحصانة البرلمانية عنه كعضو فى مجلس الشورى ووضع اسمه على قوائم الممنوعين من السفر واقتيد إلى السجن محالاً إلى محكمة الجنايات بقرار من النائب العام، وانتقل فى لحظة واحدة من «رجل الخير» و«البناء العظيم» ـ حسب الدعايات الحكومية التى صاحبت عودته من الخارج فى أعقاب المعلومات التى تسربت عن ضلوعه فى التحريض على قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم ـ إلى كلام كثير منشور فى الصحف الرسمية عن «أننا لا نحمى مجرمًا ولا نتستر على فساد»!.
فما الذى جرى.. ودعا نظام الحكم إلى أن يرفع حمايته عن هشام طلعت مصطفي؟
فى البداية ـ وهذا مؤكد وشواهده حاضرة ـ أضفى النظام حماية كاملة على هشام طلعت مصطفى.
طلبت مراجع عليا فى اتصالات هاتفية معه العودة سريعًا إلى القاهرة لنفى ما اسماه بنفسه «الشائعات»، ومنحته تطمينات بحمايته، وهو نفسه لم يكن مطمئنًا لوجوده فى الخارج، خشية أن يقبض عليه «الإنتربول»، وهو طرف رئيسى فى متابعة قضية مقتل سوزان تميم، ووفرت الصحافة الرسمية، فضلاً عن صحافة وفضائيات رجال الأعمال، الغطاء الإعلامى للحماية السياسية، مؤكدة ـ رغم أنها لديها معلومات تفصيلية عن تورط «مصطفي» فى الجريمة بأنها شائعات، وهو عائد لينفيها بنفسه.
وعندما وصل إلى القاهرة مساء السبت (9) أغسطس الماضى استقبل فى مطار القاهرة الدولى بحفاوة بالغة، كأنه بطل قومى لا متهم فى قضية قتل، وفتحت أمامه أبواب التليفزيون الرسمى مرتين فى اليوم التالى الأحد (10) أغسطس فى برنامجى «صباح الخير يا مصر» و«البيت بيتك»، أكثر البرامج مشاهدة، ولمساحات زمنية طويلة، تحدث خلالها باستفاضة عن نشاطاته الاقتصادية وأحوال البورصة وأدواره الخيرية ومشروعه الرمضانى لتوزيع مليون وجبة طعام من «بواقي» مطاعم الفنادق التى يمتلكها على الفقراء، ونيته تأسيس بنك أطلق عليه «بنك العفاف» يتولى تكاليف زواج عشرة آلاف شاب، والفكرة الأخيرة تنطوى على مفارقة الحديث عن «العفاف» فى مقام قضية جنائية على خليفة علاقة غير مشروعة بالفنانة القتيلة.
بدت الرسالة جلية لا لبس فيها: «هذا رجلنا.. وفى حمايتنا».. غير أن المشكلة كانت أعقد وأخطر من إطلاق مثل هذه الرسائل على شاشات التليفزيون.. فقد كانت الدلائل والقرائن التى سجلتها شرطة دبى حاسمة فى تحديد شخصية القاتل ضابط أمن الدولة السابق محسن السكرى، الذى اعترف تفصيليا فى تحقيقات النيابة العامة المصرية، وباطلاع من مبعوثين إماراتيين، بدور رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى فى التحريض على قتل سوزان تميم، وكان «الإنتربول» طرفًا رئيسيا فى تتبع خيوط القضية، ثم إن لـ «دبي» حسابات أخرى فى القضية تتجاوز تفاصيلها وشخوص المتهمين إلى وضع الاستثمارات الهائلة فيها، فـ «دبي» تعتمد على إدارة الاستثمارات بأكثر مما تعتمد على عوائد النفط، ومن قواعد اللعبة أن تمضى الصفقات بسلام، وبعضها يتعلق بنشاطات اقتصادية مثيرة للتساؤلات، دون أن تلجأ أى أطراف إلى استخدام العنف أو استباحة الدماء على أراضيها، وفى مثل هذه القضايا لابد من البحث عن القاتل، وردع محرضيه، بما لا يسمح بتكرار مثل هذه الحوادث.
فى بعض اللحظات تصورت جهات فى القاهرة أن دبى يمكن أن تغلق الملف ببعض الاتصالات والمساومات فى الكواليس، وهو ما لم يحدث، فقد أصر حاكمها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على تسلم المتهمين محسن السكرى وهشام طلعت مصطفى، وهددت ـ حسب مصادر موثوقة ـ بسحب استثمارات بقيمة (20) مليار دولار من مصر. القضية اسمها الأصلي: «قضية مطلوبين»، فقد جرت وقائعها فى دبى، والأدلة والقرائن الأصلية ونصوص التحريات لدى شرطتها. وفى النهاية أحالت النيابة العامة المصرية القضية إلى محكمة الجنايات، وهو تطور إيجابى يحفظ لـ «مصر» بعض كرامتها واحترامها، ويبدو أنه قد اتفق مع دبى على هذا الحل. ولم يكن هناك مناص من هذا المصير، فعدم الإعلان عن اتهام هشام طلعت مصطفى، أو تقديمه للقضاء، يسقط فى نفس اللحظة دولة القانون فى مصر، ويحيل بلدًا عريقًا فى تراثه القضائى إلى بلد يحمى مجرمين ويحول دون محاكمتهم. وهو ما لا يحتمله نظام الحكم الحالى، ولا أى نظام آخر فى العالم، فتبعاته وآثاره السياسية والاقتصادية مريعة، ولم يكن هناك بد مما ليس منه بد.
وكان التبرير الإعلامى الرئيسى لمحاولة إضفاء تعتيم كامل على القضية أن الكشف عنها يؤدى إلى إضرار خطير بالبورصة وحركة الاستثمارات فى البلد، وهو ما ثبت أنه عارض اقتصادى يمكن تجاوزه، فقد أزيح هشام وتولى شقيقه الأكبر رئاسة المجموعة، وتأثرت أسهم المجموعة ثم أخذت فى الارتفاع، والمعنى أن الشفافية والعدالة مما يحمى الاستثمار، والتستر على الفساد والجرائم مما يفقد الثقة فى مناخ الاستثمار ويحيل البلاد إلى دولة فاقدة للأهلية القانونية تتحكم فى مصائرها عصابات.
والمثير أن المعلومات الرئيسية عن هذه القضية كانت متوافرة وبدقة شديدة منذ اللحظات الأولى، ونشرت فى بعض الصحف ـ من بينها «العربي» ـ قبل قرار حظر النشر، وعند رفعه لم تكن هناك معلومات جوهرية جديدة كشفتها التحقيقات تسوغ فرض حظر النشر عليها، وذلك كله كان يستدعى رفع الحصانة عن هشام طلعت مصطفى وإحالته للمحاكمة منذ أسابيع، فاعترافات محسن السكرى حاسمة، والتسجيلات الصوتية التى قدمها والتى تثبت ضلوع هشام طلعت مصطفى لا محل للتشكيك فيها.
هناك باليقين ضغوط سياسية مورست، وحملات إعلامية حاولت الإيحاء بأن الاتهامات مجرد شائعات، ولكنها سلمت فى النهاية بأنه لا سبيل إلى تحدى «الإنتربول الدولي»، وجرت التضحية برجل أعمال رشحه مبارك ذات مرة لوزارة الإسكان، معتبرًا أن جهوده فى بناء المنتجعات مثالية إلى حد وجوب أن تحتذى رسميا، وافتتح أخيرًا أحد فنادقه الكبيرة فى الإسكندرية، فضلاً عن أنه من أبرز المقربين من جمال مبارك ولجنة سياساته.
و.. هنا صلب قضية هشام طلعت مصطفى، فهو ليس شخصية عادية، ولا الاتهامات الموجهة إليه عادية، ولا الحماية التى أضفيت عليه فى البداية عادية، ولا التضحية به فى النهاية عادية. القضية كلها بتفاصيلها وخلفياتها الجنائية والسياسية تخرج من نطاق ما هو عادى إلى كشف حقائق السلطة والمال فى مصر.
غير أن البدايات تضاربت مع النهايات، وثبت أن لعبة السلطة تحكمها عناصر أكثر تعقيدًا مما قد يتبدى ـ أحيانًا ـ على السطح.
فى لحظة قد يتبدى أن زواج السلطة بالمال مما لا يمكن فكه، ولكن فى لحظة أخرى يثبت أن للسلطة حسابات أخرى، وهى مستعدة للتضحية بأوثق رجالها إذا ما كان بقاؤهم يعرضها للخطر، وقد تعرضت السلطة إلى خطر محقق قد يسحق ما تبقى لها من شرعية عامة، فلا أحد بوسعه أن يضفى حماية على متهمين فى جرائم جنائية، إلا أن يكون ذلك اعترافًا وإقرارًا بأن دولة القانون قد انتهت، ودولة المافيا رفعت أعلامها فوق بيوت العدالة.
وعندما أطيح برجل الأعمال القوى، ورفعت الحماية السياسية عنه، بالغت وسائل الإعلام فى اغتياله معنويا بأكثر ما هو منسوب إليه من اتهامات خطيرة، فقد وصف بالفساد، بينما القضية جنائية، ولا تتعلق بمصادر ثروته أو أى وقائع أخرى تمس نشاطه العام أو التجارى، والمبالغة فى الإدانة الوجه الآخر لفكرة التعتيم ومحاولة نفى التهمة عنه ووصفها بالشائعات، أو محاولة غسل سمعة النظام على حساب حليفه السابق. ومن حق هشام طلعت مصطفى أن يحصل على محاكمة عادلة قبل أن يلقى جزاءه القانونى، ولكن ليس من حق الذين حاولوا منع محاكمته وغسل يديه من جريمة بشعة أن يستخدموا هذه القضية، بعد أن نفضوا أيديهم من رجل الأعمال، لغسل سمعة النظام!
القضية ـ بعد ذلك وقبله ـ تتجاوز وقائعها الجنائية إلى ميادين السياسة، فهى تكشف نمط رجال الأعمال الجدد، والأنساق السياسية والأخلاقية التى تحكمهم، والاستهتار بدولة القانون، فهم القانون، وهم الدولة، وأصحاب المصلحة فيها، وحكامها وملاكها، وهذه الاعتقادات أفضت ـ عمليا ـ إلى توحش الفساد، الذى بات منهجيا وفى صلب نظام الحكم.
وليست مصادفة أن تتعاقب على نحو مثير وقائع سقوط رجال أعمال مقربين من نجل الرئيس ولجنة سياساته، واحدًا إثر آخر، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة نظام الحكم الحالى ومشروع التوريث فيه، وقد يقال ما ذنب جمال مبارك فى جرائم جنائية ارتكبها غيره، وهو قول مردود عليه بأن تكرار هذا النمط من الجرائم فى رجال حوله يكشف عمق الأزمة التى تخنق النظام وتهدده فى وجوده، ونوع رجال الأعمال الجدد الذين يمسكون بمقدرات البلاد الاقتصادية والسياسية، ويطرح تساؤلات أخرى حول الطريقة التى حصلوا بها على ثرواتهم المليارية فى سنوات قليلة، ومدى تورط مسئولين كبار فى وقائع الاستيلاء على المال العام أو أراضى الدولة بأرخص الأسعار وفى صفقات تفتقد الحد الأدنى من الشفافية والنزاهة، إذا جاز الحديث أصلاً عن الشفافية والنزاهة، وهو الملف الأخطر، الذى قد يفسر بعض أسباب محاولة حماية رجال أعمال من نوع هشام طلعت مصطفى وممدوح إسماعيل.. والقائمة طويلة وتضرب فكرة العدالة ودولتها فى مصر.
وفى كل مرة يسقط أحد رجال جمال مبارك، يغيب صوته، ويحاول أن يخرج على الناس بحملة علاقات عامة يتجول خلالها فى قرى نائية وفقيرة، بينما أصدقاؤه مليارديرات يعرف أكثر من غيره كيف حصلوا عليها.. ومن يوفر الحماية لهم. وفى كل مرة يعمل على نفى أى صلة بأصدقائه القدامى، فللسلطة حسابات أخرى، ولعلنا نذكر أنه قد دفع أحمد عز على ألا يذكر مرة أخرى أنه صديق نجل الرئيس.
واللافت أن هشام طلعت مصطفى وأحمد عز بينهما حروب معلنة، رغم أن كليهما مقرب من نجل الرئيس، ويتردد بقوة أن عز أول من سرب أنباء عن التحقيقات فى قضية مقتل سوزان تميم، والمعنى أن الحروب العائلية تنبئ بانهيارات داخلية وتنذر بسقوط أكبر وأفدح، وهذا هو المعنى السياسى الرئيسى فى قضية هشام طلعت مصطفى
المصدر:
جريده العربى
الصدمة شلت تفكيره، فما يحدث لم يكن يخطر له على بال، انقلبت الحسابات والتصورات بصورة مباغتة، رفعت الحصانة البرلمانية عنه كعضو فى مجلس الشورى ووضع اسمه على قوائم الممنوعين من السفر واقتيد إلى السجن محالاً إلى محكمة الجنايات بقرار من النائب العام، وانتقل فى لحظة واحدة من «رجل الخير» و«البناء العظيم» ـ حسب الدعايات الحكومية التى صاحبت عودته من الخارج فى أعقاب المعلومات التى تسربت عن ضلوعه فى التحريض على قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم ـ إلى كلام كثير منشور فى الصحف الرسمية عن «أننا لا نحمى مجرمًا ولا نتستر على فساد»!.
فما الذى جرى.. ودعا نظام الحكم إلى أن يرفع حمايته عن هشام طلعت مصطفي؟
فى البداية ـ وهذا مؤكد وشواهده حاضرة ـ أضفى النظام حماية كاملة على هشام طلعت مصطفى.
طلبت مراجع عليا فى اتصالات هاتفية معه العودة سريعًا إلى القاهرة لنفى ما اسماه بنفسه «الشائعات»، ومنحته تطمينات بحمايته، وهو نفسه لم يكن مطمئنًا لوجوده فى الخارج، خشية أن يقبض عليه «الإنتربول»، وهو طرف رئيسى فى متابعة قضية مقتل سوزان تميم، ووفرت الصحافة الرسمية، فضلاً عن صحافة وفضائيات رجال الأعمال، الغطاء الإعلامى للحماية السياسية، مؤكدة ـ رغم أنها لديها معلومات تفصيلية عن تورط «مصطفي» فى الجريمة بأنها شائعات، وهو عائد لينفيها بنفسه.
وعندما وصل إلى القاهرة مساء السبت (9) أغسطس الماضى استقبل فى مطار القاهرة الدولى بحفاوة بالغة، كأنه بطل قومى لا متهم فى قضية قتل، وفتحت أمامه أبواب التليفزيون الرسمى مرتين فى اليوم التالى الأحد (10) أغسطس فى برنامجى «صباح الخير يا مصر» و«البيت بيتك»، أكثر البرامج مشاهدة، ولمساحات زمنية طويلة، تحدث خلالها باستفاضة عن نشاطاته الاقتصادية وأحوال البورصة وأدواره الخيرية ومشروعه الرمضانى لتوزيع مليون وجبة طعام من «بواقي» مطاعم الفنادق التى يمتلكها على الفقراء، ونيته تأسيس بنك أطلق عليه «بنك العفاف» يتولى تكاليف زواج عشرة آلاف شاب، والفكرة الأخيرة تنطوى على مفارقة الحديث عن «العفاف» فى مقام قضية جنائية على خليفة علاقة غير مشروعة بالفنانة القتيلة.
بدت الرسالة جلية لا لبس فيها: «هذا رجلنا.. وفى حمايتنا».. غير أن المشكلة كانت أعقد وأخطر من إطلاق مثل هذه الرسائل على شاشات التليفزيون.. فقد كانت الدلائل والقرائن التى سجلتها شرطة دبى حاسمة فى تحديد شخصية القاتل ضابط أمن الدولة السابق محسن السكرى، الذى اعترف تفصيليا فى تحقيقات النيابة العامة المصرية، وباطلاع من مبعوثين إماراتيين، بدور رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى فى التحريض على قتل سوزان تميم، وكان «الإنتربول» طرفًا رئيسيا فى تتبع خيوط القضية، ثم إن لـ «دبي» حسابات أخرى فى القضية تتجاوز تفاصيلها وشخوص المتهمين إلى وضع الاستثمارات الهائلة فيها، فـ «دبي» تعتمد على إدارة الاستثمارات بأكثر مما تعتمد على عوائد النفط، ومن قواعد اللعبة أن تمضى الصفقات بسلام، وبعضها يتعلق بنشاطات اقتصادية مثيرة للتساؤلات، دون أن تلجأ أى أطراف إلى استخدام العنف أو استباحة الدماء على أراضيها، وفى مثل هذه القضايا لابد من البحث عن القاتل، وردع محرضيه، بما لا يسمح بتكرار مثل هذه الحوادث.
فى بعض اللحظات تصورت جهات فى القاهرة أن دبى يمكن أن تغلق الملف ببعض الاتصالات والمساومات فى الكواليس، وهو ما لم يحدث، فقد أصر حاكمها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على تسلم المتهمين محسن السكرى وهشام طلعت مصطفى، وهددت ـ حسب مصادر موثوقة ـ بسحب استثمارات بقيمة (20) مليار دولار من مصر. القضية اسمها الأصلي: «قضية مطلوبين»، فقد جرت وقائعها فى دبى، والأدلة والقرائن الأصلية ونصوص التحريات لدى شرطتها. وفى النهاية أحالت النيابة العامة المصرية القضية إلى محكمة الجنايات، وهو تطور إيجابى يحفظ لـ «مصر» بعض كرامتها واحترامها، ويبدو أنه قد اتفق مع دبى على هذا الحل. ولم يكن هناك مناص من هذا المصير، فعدم الإعلان عن اتهام هشام طلعت مصطفى، أو تقديمه للقضاء، يسقط فى نفس اللحظة دولة القانون فى مصر، ويحيل بلدًا عريقًا فى تراثه القضائى إلى بلد يحمى مجرمين ويحول دون محاكمتهم. وهو ما لا يحتمله نظام الحكم الحالى، ولا أى نظام آخر فى العالم، فتبعاته وآثاره السياسية والاقتصادية مريعة، ولم يكن هناك بد مما ليس منه بد.
وكان التبرير الإعلامى الرئيسى لمحاولة إضفاء تعتيم كامل على القضية أن الكشف عنها يؤدى إلى إضرار خطير بالبورصة وحركة الاستثمارات فى البلد، وهو ما ثبت أنه عارض اقتصادى يمكن تجاوزه، فقد أزيح هشام وتولى شقيقه الأكبر رئاسة المجموعة، وتأثرت أسهم المجموعة ثم أخذت فى الارتفاع، والمعنى أن الشفافية والعدالة مما يحمى الاستثمار، والتستر على الفساد والجرائم مما يفقد الثقة فى مناخ الاستثمار ويحيل البلاد إلى دولة فاقدة للأهلية القانونية تتحكم فى مصائرها عصابات.
والمثير أن المعلومات الرئيسية عن هذه القضية كانت متوافرة وبدقة شديدة منذ اللحظات الأولى، ونشرت فى بعض الصحف ـ من بينها «العربي» ـ قبل قرار حظر النشر، وعند رفعه لم تكن هناك معلومات جوهرية جديدة كشفتها التحقيقات تسوغ فرض حظر النشر عليها، وذلك كله كان يستدعى رفع الحصانة عن هشام طلعت مصطفى وإحالته للمحاكمة منذ أسابيع، فاعترافات محسن السكرى حاسمة، والتسجيلات الصوتية التى قدمها والتى تثبت ضلوع هشام طلعت مصطفى لا محل للتشكيك فيها.
هناك باليقين ضغوط سياسية مورست، وحملات إعلامية حاولت الإيحاء بأن الاتهامات مجرد شائعات، ولكنها سلمت فى النهاية بأنه لا سبيل إلى تحدى «الإنتربول الدولي»، وجرت التضحية برجل أعمال رشحه مبارك ذات مرة لوزارة الإسكان، معتبرًا أن جهوده فى بناء المنتجعات مثالية إلى حد وجوب أن تحتذى رسميا، وافتتح أخيرًا أحد فنادقه الكبيرة فى الإسكندرية، فضلاً عن أنه من أبرز المقربين من جمال مبارك ولجنة سياساته.
و.. هنا صلب قضية هشام طلعت مصطفى، فهو ليس شخصية عادية، ولا الاتهامات الموجهة إليه عادية، ولا الحماية التى أضفيت عليه فى البداية عادية، ولا التضحية به فى النهاية عادية. القضية كلها بتفاصيلها وخلفياتها الجنائية والسياسية تخرج من نطاق ما هو عادى إلى كشف حقائق السلطة والمال فى مصر.
غير أن البدايات تضاربت مع النهايات، وثبت أن لعبة السلطة تحكمها عناصر أكثر تعقيدًا مما قد يتبدى ـ أحيانًا ـ على السطح.
فى لحظة قد يتبدى أن زواج السلطة بالمال مما لا يمكن فكه، ولكن فى لحظة أخرى يثبت أن للسلطة حسابات أخرى، وهى مستعدة للتضحية بأوثق رجالها إذا ما كان بقاؤهم يعرضها للخطر، وقد تعرضت السلطة إلى خطر محقق قد يسحق ما تبقى لها من شرعية عامة، فلا أحد بوسعه أن يضفى حماية على متهمين فى جرائم جنائية، إلا أن يكون ذلك اعترافًا وإقرارًا بأن دولة القانون قد انتهت، ودولة المافيا رفعت أعلامها فوق بيوت العدالة.
وعندما أطيح برجل الأعمال القوى، ورفعت الحماية السياسية عنه، بالغت وسائل الإعلام فى اغتياله معنويا بأكثر ما هو منسوب إليه من اتهامات خطيرة، فقد وصف بالفساد، بينما القضية جنائية، ولا تتعلق بمصادر ثروته أو أى وقائع أخرى تمس نشاطه العام أو التجارى، والمبالغة فى الإدانة الوجه الآخر لفكرة التعتيم ومحاولة نفى التهمة عنه ووصفها بالشائعات، أو محاولة غسل سمعة النظام على حساب حليفه السابق. ومن حق هشام طلعت مصطفى أن يحصل على محاكمة عادلة قبل أن يلقى جزاءه القانونى، ولكن ليس من حق الذين حاولوا منع محاكمته وغسل يديه من جريمة بشعة أن يستخدموا هذه القضية، بعد أن نفضوا أيديهم من رجل الأعمال، لغسل سمعة النظام!
القضية ـ بعد ذلك وقبله ـ تتجاوز وقائعها الجنائية إلى ميادين السياسة، فهى تكشف نمط رجال الأعمال الجدد، والأنساق السياسية والأخلاقية التى تحكمهم، والاستهتار بدولة القانون، فهم القانون، وهم الدولة، وأصحاب المصلحة فيها، وحكامها وملاكها، وهذه الاعتقادات أفضت ـ عمليا ـ إلى توحش الفساد، الذى بات منهجيا وفى صلب نظام الحكم.
وليست مصادفة أن تتعاقب على نحو مثير وقائع سقوط رجال أعمال مقربين من نجل الرئيس ولجنة سياساته، واحدًا إثر آخر، وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة نظام الحكم الحالى ومشروع التوريث فيه، وقد يقال ما ذنب جمال مبارك فى جرائم جنائية ارتكبها غيره، وهو قول مردود عليه بأن تكرار هذا النمط من الجرائم فى رجال حوله يكشف عمق الأزمة التى تخنق النظام وتهدده فى وجوده، ونوع رجال الأعمال الجدد الذين يمسكون بمقدرات البلاد الاقتصادية والسياسية، ويطرح تساؤلات أخرى حول الطريقة التى حصلوا بها على ثرواتهم المليارية فى سنوات قليلة، ومدى تورط مسئولين كبار فى وقائع الاستيلاء على المال العام أو أراضى الدولة بأرخص الأسعار وفى صفقات تفتقد الحد الأدنى من الشفافية والنزاهة، إذا جاز الحديث أصلاً عن الشفافية والنزاهة، وهو الملف الأخطر، الذى قد يفسر بعض أسباب محاولة حماية رجال أعمال من نوع هشام طلعت مصطفى وممدوح إسماعيل.. والقائمة طويلة وتضرب فكرة العدالة ودولتها فى مصر.
وفى كل مرة يسقط أحد رجال جمال مبارك، يغيب صوته، ويحاول أن يخرج على الناس بحملة علاقات عامة يتجول خلالها فى قرى نائية وفقيرة، بينما أصدقاؤه مليارديرات يعرف أكثر من غيره كيف حصلوا عليها.. ومن يوفر الحماية لهم. وفى كل مرة يعمل على نفى أى صلة بأصدقائه القدامى، فللسلطة حسابات أخرى، ولعلنا نذكر أنه قد دفع أحمد عز على ألا يذكر مرة أخرى أنه صديق نجل الرئيس.
واللافت أن هشام طلعت مصطفى وأحمد عز بينهما حروب معلنة، رغم أن كليهما مقرب من نجل الرئيس، ويتردد بقوة أن عز أول من سرب أنباء عن التحقيقات فى قضية مقتل سوزان تميم، والمعنى أن الحروب العائلية تنبئ بانهيارات داخلية وتنذر بسقوط أكبر وأفدح، وهذا هو المعنى السياسى الرئيسى فى قضية هشام طلعت مصطفى
المصدر:
جريده العربى